فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}
قال ابن عباس: كانت الغنائم محرمة على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان فكانت النار تنزل من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في أخذ الغنائم والفداء فأنزل الله: {لولا كتاب من الله سبق} يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم.
ثم لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدًا ممن شهد بدرًا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جريج: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وأنه لا يأخذ قومًا فعلوا بجهالة لمسكم يعني لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به عذاب عظيم قال محمد بن إسحاق: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدرًا إلا وأحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الإثخان في اقتل أحب إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ». اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} أي لولا حكمٌ منه تعالى سبق إثباتُه في اللوح المحفوظِ وهو أن لا يعاقبَ المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهلَ بدر أو قومًا لم يصرِّح لهم بالنهي، وأما أن الفدية التي أخذوها ستحِل لهم فلا يصلح أن يعد من موانع مساسِ العذاب فإن الحِلَّ اللاحقَ لا يرفع حكمَ الحرمةِ السابقة كما أن الحرمةَ اللاحقة كما في الخمر مثلًا لا ترفع حكمَ الإباحةِ السابقة على أنه قادحٌ في تهويل ما نُعي عليهم من أخذ الفداء {لَمَسَّكُمْ} أي لأصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي لأجل ما أخذتم من الفداء {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَر قدرُه. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ}
قيل: أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قومًا قبل تقديم ما يبين لهم أمرًا أو نهيًا، وروى ذلك الطبراني في الأوسط.
وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه أبو الشيخ عن مجاهد أو المخطئ في مثل هذا الاجتهاد، وقيل: هو أن لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أوان لا يعذب أهل بدر رضي الله تعالى عنهم، فقد روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب وكان قد شهد بدرًا: وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقريب من هذا ما روي عن مجاهد أيضًا.
وابن جبير وزعم أن هذا قول بسقوط التكليف لا يصدر إلا عمن سقط عنه التكليف، والعجب من الإمام الرازي كيف تفوه به لأن المراد أن من حضر بدرًا من المؤمنين يوفقه الله تعالى لطاعته.
ويغفر له الذنب لو صدر منه ويثبته على الإيمان الذي ملأ به صدره إلى الزوافاة لعظم شأن تلك الوقعة إذ هي أول وقعة أعز الله تعالى بها الإسلام وفاتحة للفتوح والنصر من الله عز وجل، وليس الأمر في الحديث على حقيقته كما لا يخفى، وقيل: هو أن الفدية التي أخذوها ستصير حلالًا لهم.
واعترض بأن هذا لا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في الخمر مثلًا لا ترفع حكم الإباحة السابقة، على أنه قادح في تهويل ما نعى عليهم من أخذ الفداء كما يدل عليه قوله سبحانه: {لَمَسَّكُمْ} أي لأصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي لأجل أخذكم أو الذي أخذتموه من الفداء {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادر قدره.
وأجيب بأنه لا مانع من اعتبار كونها ستحل سببًا للعفو ومانعًا عن وقوع العذاب الدنيوي المراد بما في الآية وإن لم يعتبر في وقت من الأوقات كون المباح سيحرم سببًا للانتقام ومانعًا من العفو تغليبًا لجانب الرحمة على الجانب الآخر، وحاصل المعنى أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه ومنع ترتب العذاب عليه إني سأحله قريبًا لكم، ومثل ذلك نظرًا إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سببًا للعفو ومانعًا عن العذاب، وكأن الداعي لتكلف هذا الجواب أن ما ذكر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأخرجاهما والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا، ولا يبعد عندي أن يكون المانع من مساس العذاب كل ما تقدم، وفي ذلك تهويل لمانعي عليهم حيث منع من ترتب مساس العذاب عليه موانع جمة ولولا تلك الموانع الجمة لترتب، وتعدد موانع شيء واحد جائز وليس كتعدد العلل واجتماعها على معلول واحد شخصي كما بين في موضعه، وبهذا يجمع بين الروايات المختلفة عن الحبر في بيان هذا الكتاب، وذلك بأن يكون في كل مرة ذكر أمرًا واحدًا من تلك الأمور، والتنصيص على الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وليس في شيء من الروايات ما يدل على الحصر فافهم، وقال بعضهم: إن المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم ونصركم لمسكم عذاب عظيم من أعدائكم بغلبتهم لكم وتسليطهم عليكم يقتلون ويأسرون وينهبون وفيه نظر، لأنه إن أريد بهذه الغلبة المفروضة الغلبة في بدر فالأخذ الذي هو سببها إنما وقع بعد انقضاء الحرب، وحينئذٍ يكون مآل المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم لغلبكم الكفار قبل بسبب ما فعلتم بعد وهو كما ترى، وإن أريد الغلبة بعد ذلك فهي قد مست القوم في أحد فإن أعداءهم قد قتلوا منهم سبعين عدد الأسرى وكان ما كان؛ فلا يصح نفي المس حينئذٍ.
نعم أخرج ابن جرير عن محمد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: «لو أنزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ لقوله: كان الأثخان في القتل أحب إلي». وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ وذلك يدل على أن المراد بالعذاب عذاب الدنيا غير القتل مما لم يعهد لمكان نزل من السماء، وحينئذٍ لا يرد أنه استشهد منهم بعدتهم لأن الشهادة لا تعد عذابًا، لكن هذا لا ينفع ذلك القائل لأنه لم يفسر العذاب إلا بالغلبة وهي صادقة في مادة الشهادة. اهـ.

.قال القاسمي:

{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ}
أي: لأصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي: بسببه، وهو الفداء: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: شديد، بقدر إبطالكم الحكمة العظيمة، وهي قتلهم، الذي هو أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم وأفلّ لشوكتهم. والمراد بالكتاب الحكم، وإنما أطلق عليه لأنه مكتوب في اللوح.
ولأئمة التفسير أقوال في تفسيره، فقيل: هو أنه لا يعذب قومًا إلا بعد تقديم النهي، ولم يتقدم نهي عن ذلك، وقيل: هو أنه لا يعذب المخطئ في اجتهاده، وقيل: هو كون أهل بدر مغفورًا لهم. وقيل: هو حل المغانم.
وللرازي مناقشة في هذه الأقوال، واختار أن الكتاب هو حكمه في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة، لأنه كتب على نفسه الرحمة، وسبقت رحمته غضبه.
أقول: لعل الأمسّ في تهويل ما اكتسبوه، تفسير الكتاب بما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}- والله أعلم-.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي: قال ابن عباس: هذا الحاكم إنما كان يوم بدر، لأن المسلمين كانوا قليلين، فلما كثروا وقوي سلطانهم، أنزل الله بعد ذلك في الأسارى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}.
وأقول: هذا الكلام يوهم أن قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} يريد حكم الآية التي نحن في تفسيرها، وليس الأمر كذلك، لأن الآيتين متوافقتان، فإن كلتيهما تدل على أنه لابد من تقديم الإثخان، ثم بعده أخذ الفداء. انتهى.
وقال بعضهم: لا تظهر دعوى النسخ من أصلها، إذ النهي الضمني، كما هنا مقيد ومُغَيًّا بالإثخان، أي: كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته، وما في سورة القتال من التخيير، محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال، فلا تعارض بين الآيتين، إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا. نقله في الفتح.
الثاني: قال القاضي: في الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون، وأنه قد يكون خطأ، ولكن لا يقرّون عليه.
الثالث: قال ابن كثير: وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء، أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل، كما فعل ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال، كما فعل بأسرى بدر، بمن أُسِر من المسلمين، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين.
وإن شاء استرق من أسر، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة، مقرر في موضعه.
الرابع: قال بعض مفسري الزيدية: في هذه الآية سؤال وهو أن يقال: إن كان فعلهم اجتهادًا وخطأ، فلِمَ عوتبوا؟ ويلزم أن لا معصية، وإن تمكنوا من العلم وقصروا، فكيف أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وجواب ذلك من وجهين:
الأول: عن أبي علي أن ذلك كان معصية صغيرة. قال الحاكم: وكانوا متمكنين من العلم، إذا ما عاتبهم، وقيل: كان خطأ وقصروا فعوتبوا على التقصير. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {لولا كتاب من الله سبق} إلخ مستأنفة استئنافًا بيانيًا، لأنّ الكلام السابق يؤذن بأنّ مفاداة الأسرى أمر مرهوب تخشى عواقبه، فيستثير سؤالًا في نفوسهم عمّا يترقّب من ذلك، فبيّنه قوله: {لولا كتاب من الله سبق} الآية.
والمراد بالكتاب المكتوب، وهو من الكتابة التي هي التعيين والتقدير، وقد نكر الكتاب تنكير نوعية وإبهام، أي: لولا وجود سنّة تشريع سبق عن الله.
وذلك الكتاب هو عذر المستشار وعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ، فقد استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشاروا بما فيه مصلحة رأوها وأخذ بما أشاروا به ولولا ذلك لكانت مخالفتهم لما يحبّه الله اجتراء على الله يوجب أن يمسّهم عذاب عظيم.
وهذه الآية تدل على أن لله حكمًا في كل حادثة، وأنه نَصَب على حكمه أمارة هي دليل المجتهد وأن مخطئه من المجتهدين لا يأثم بل يؤجر.
وفي للتعليل، والعذاب يجوز أن يكون عذاب الآخرة.
ويجوز أن يكون العذاب المنفي عذابًا في الدنيا، أي: لولا قدر من الله سبق من لطفه بكم فصرف بلطفه وعنايته عن المؤمنين عذابًا كان من شأن أخذهم الفداء أن يسبّبه لهم ويوقعهم فيه.
وهذا العذاب عذاب دنيوي، لأنّ عذاب الآخرة لا يترتّب إلاّ على مخالفة شرع سابق، ولم يسبق من الشرع ما يحرّم عليهم أخذ الفداء، كيف وقد خيّروا فيه لمّا استشيروا، وهو أيضًا عذاب من شأنه أن يجرّه عملهم جرّ الأسباب لمسبباتها، وليس عذابَ غضب من الله، لأنّ ذلك لا يترتّب إلاّ على معاص عظيمة، فالمراد بالعذاب أنّ أولئك الأسرى الذين فادَوهم كانوا صناديد المشركين وقد تخلّصوا من القتل والأسر يحملون في صدورهم حنقًا فكان من معتاد أمثالهم في مثل ذلك أن يسعَوا في قومهم إلى أخذ ثار قتلاهم واسترداد أموالهم فلو فعلوا لكانت دائرة عظيمة على المسلمين، ولكنّ الله سَلَّم المسلمين من ذلك فصرف المشركين عن محبّة أخذ الثأر، وألهاهم بما شغلهم عن معاودة قتال المسلمين، فذلك الصرف هو من الكتاب الذي سبق عند الله تعالى.
وقد حصل من هذه الآية تحذير المسلمين من العودة للفداء في مثل هذه الحالة، وبذلك كانت تشريعًا للمستقبل كما ذكرناه آنفًا. اهـ.